إذا كنا قد أطلقنا على مشكلة إحدى شركات التأمين غير الوطنية وصف "تسونامي قطاع التأمين", فإن كارثة تسونامي التأمين الحقيقية قادمة لا كنتيجة لما حدث لشركة الاتحاد الوطني, بل نتاج التوابع الزلزالية لمشاكل شركات التكافل. فاليوم نواجه مشكلة انتشار عدد كبير من شركات التأمين خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة حين منحتها وزارة التجارة والصناعة تراخيص لمزاولة أعمال ونشاطات التأمين التكافلي في السوق المحلية المحدودة الإمكانات.

ولو اعتمدنا حسبة اكتوارية لتقدير التعويضات المستقبلية المتوقع أن تواجهها هذه الشركات لاكتشفنا أن هذه الشركات هي في الواقع العملي في عداد الشركات المفلسة اليوم وليس مستقبلا, وهذا طبعا دون تدخل أي جهة حكومية أو غير حكومية لمنع مضاعفات الإفلاس. وإزاء المشاكل التي تعاني منها شركات التأمين يبدو أن وزارة التجارة والصناعة قد اكتفت بأرقام ميزانيات شركات التأمين, دون إمعان النظر فيما وراء أرقام هذه الميزانيات. فبالنسبة لوزارة التجارة فإن الأموال الواجب بقاؤها بحوزتها والاحتياطيات الفنية واحتياطيات الأخطار السارية المحجوزة من الأقساط, هذه كلها أكثر من كافية وتكفي لتبعث الراحة في جسد الوزارة.

ولكن كيف يمكن أن تشعر الوزارة بالراحة في ظل ما وقع لشركة تأمين غير كويتية سحب ترخيصها? ولو كانت الوزارة تجيد مهام الرقابة اللصيقة لشركات التأمين وتعرف حقيقة الالتزامات المستقبلية على هذه الشركات لما وصل عدد من شركات التأمين الوطنية إلى حافة الإفلاس. مشكلة الوزارة أنها تكتفي بأرقام الميزانيات وتبني قراراتها على أرقام يستطيع اي محاسب أن يفبركها حسب رغبات مجلس إدارة الشركة أو حسب أمنيات الإدارة العليا.

ولو كانت أرقام غالبية الميزانيات السنوية صادقة 100% لما تدهورت أوضاع شركات في عدد من القطاعات الاقتصادية في الكويت, بل ولما هوت شركة التأمين الأميركية (AIG) العريقة من عليائها. الميزانية بشكل عام عبارة عن صورة فورية لأحوال الشركة – أي شركة – في آخر ساعة من اليوم الأخير من السنة. فهذه الأرقام الواردة في أي ميزانية سنوية تمثل بعض الواقع في كل الأحوال أو أنها قد تمثل كل الواقع لبعض الأحوال ولكنها لا يمكن أن تمثل كل الواقع في كل الأحوال.
وزارة التجارة والصناعة من جانب آخر تملك ما يكفي من أدلة على أي شركة من شركات التأمين أو أدلة على أنها عاجزة عن توزيع أرباح, وعاجزة عن الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه الآخرين, أو أن شركة تأمين تكافلية لا تلتزم بتوزيع فوائضها المالية على حملة الوثائق. والوزارة لديها كل الوسائل للتصدي لتسونامي قادم سيجرف كل شركات التأمين حديثة التأسيس, والتي ستجر معها كل قطاع التأمين الذي يحتوي على شركات لا تملك احتياطيات مناسبة ولا غطاء ماليا كافيا, وستجر معها شركات تملك استثمارات لا يمكن تسييلها في الوقت المناسب من أجل الوفاء بالتزاماتها. ولهذا فإن الوضع في قطاع التأمين أخطر مما يتصوره العقل, ورغم ذلك لا تحرك الوزارة ساكنا.

ولهذا نتساءل عن أي دليل تحتاجه وزارة التجارة والصناعة أكثر من هذه الأدلة لكي تتدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حقوق المساهمين وحملة الوثائق حتى لا تتضاعف الالتزامات? وأين الدور الرقابي لهذه الوزارة لحماية الاقتصاد? هذه المعطيات تؤكد لنا أنه إذا لم تتدخل وزارة التجارة والصناعة سريعا فإن قطاع التأمين سوف يشهد إفلاسات لشركات حديثة التأسيس, وستجر معها نحو الهاوية شركات أخرى ليس من نفس القطاع فحسب, وإنما من قطاعات اقتصادية أخرى مرتبطة بقطاع التأمين بشكل أو بآخر. وإذا كانت إحدى شركات التأمين التكافلي حديثة التأسيس في السوق الكويتي قد استجمعت شتات شجاعتها, لتعلن وبكل صراحة أمام المساهمين في آخر جمعية عمومية عن إفلاسها, فإن هناك الكثير من شركات التأمين المفلسة التي تكابر مدعية أن أوضاعها المالية على ما يرام, بينما هي في واقع الحال ميتة إكلينيكيا أو ما يمكن أن نطلق عليها (Walking Dead).

هذا الوضع الغريب يدفعنا إلى طرح سؤال منطقي: ما السبب في نجاح شركات تأمين تقليدية في تحقيق أرباح سنوية قدرت بعشرات الملايين من الدنانير خلال السنوات العشر الأخيرة في سوق تعاني من محدودية الإمكانات وكثرة في عدد شركات التأمين بشقيها التقليدي والتكافلي, بالإضافة إلى غياب الوعي التأميني بين قطاع عريض من الجماهير, بينما تعجز شركات التأمين التكافلي عن تحقيق أرباح في نفس هذه السوق? أليس لعامل الخبرة الطويلة في مجال التأمين وللقدرة على توظيف الأموال في قنوات استثمار واعدة ولعامل الشفافية والوضوح دور بارز في تحقيق النجاحات?

المشكلة الأكبر هي أن وزارة التجارة والصناعة التي رخصت وبالجملة لهذه الشركات الخاسرة لا تقوم بدورها المناط بها في الحفاظ على حقوق المساهمين ولا بحقوق حملة الوثائق ولا بالحفاظ على سمعة الكويت بين شركات إعادة التأمين العالمية, ولا تحرك ساكنا من أجل وقف نزيف الخسائر حتى لا يجرف تسونامي التأمين قطاعات اقتصادية أخرى شاء القدر لها أن ترتبط بالتأمين بطريق غير مباشر.

يبدو أن وزارة التجارة لا تستوعب أن الالتزامات المالية على بعض شركات التأمين الخاسرة خطيرة وأكبر مما يتصورها العقل, والدليل أن هناك شركتين رفعت ضدهما دعاوى قضائية في المحاكم الكويتية للمطالبة بسداد التزامات مالية عليهما تفوق رأس مالهما مجتمعين بأكثر من أربع مرات, فماذا فعلت وزارة التجارة لوقف هذه المذبحة? بل وماذا فعلت الوزارة حيال خسائر خمس شركات تأمين أرسلت لها خطابات تخيرها بين زيادة رؤوس أموالها أو الاندماج بشركات تأمين أخرى رصينة أو إعلان إفلاسها? لا شيء حتى هذه اللحظة. ويبدو أن الوزارة تمارس طقوس الهَبة الكويتية.

نحن لا نعيش في جزيرة معزولة بل نعيش في عالم صار قرية صغيرة بسبب تكنولوجيا الاتصال وصار تشعب العلاقات بين الشركات مثل شبكة عنكبوتية معقدة ولكنها سهلت التواصل والاتصال. ولهذا إذا ما سقطت شركة حديثة التأسيس جرت معها شركات أخرى بينها شركة أو أكثر من الشركات القديمة لوجود حسابات وأرصدة مشتركة بين عدد غير قليل من شركات قطاع التأمين بسبب تعويضات السيارات وحق الرجوع بين الشركات على بعضها البعض. فقد يكون المتسبب بالحادث أو المدعى عليه مؤمنا عليه لدى الشركة (س) فتقوم الشركة (ص) بمطالبة الشركة (س) بالتعويض, أو برفع دعوى قضائية ضد الشركة (س) للحصول على التعويض. ولهذا السبب إذا ما أفلست الشركة (س) فمن أين سيحصل حملة الوثائق أو الشركة (ص) على التعويض?

أمر آخر في غاية الخطورة على قطاع التأمين وعلى سمعة الاقتصاد الوطني ككل, فقد أتيحت لشركات التأمين التكافلية حديثة التأسيس فرصة التأمين على مشاريع ضخمة في الدولة, سواء كانت تابعة لوزارة الأشغال العامة أو لوزارة الكهرباء والماء أو لجامعة الكويت أو لغيرها. وفي بعض الأحيان تكون قيمة مشروع واحد أكبر مما تتحمله القدرات المالية لشركة التأمين كالمشاريع النفطية مثلا والتي قدرت مبالغها بعشرات الملايين من الدنانير. ألا تدفع مثل هذه الممارسات الغريبة نحو طرح أكثر من سؤال حول معايير الخبرة ومتطلبات الضمانات واشتراطات المشاركة في التأمين على مشاريع نفطية ضخمة هي في أقل الأحوال أضعاف رأس مال شركات التأمين هذه بمرات عدة?

وإذا كانت تصنيفات لجنة المناقصات المركزية تعتمد على توزيع شركات المقاولات حسب قدراتها الفنية وخبراتها المهنية وسجل إنجازاتها, وإذا كانت لجنة المناقصات كذلك تمنع شركات حديثة التأسيس من المشاركة في مشاريع ضخمة, فلماذا يسمح لشركات التأمين الحديثة بالمشاركة في مشاريع هي في الواقع أكبر من قدراتها الفنية ومن إمكاناتها المالية? وما المقابل الذي ستقدمه كتعويض عند تقديم المطالبات والتعويضات?

وقد يقول قائل إن هذه الشركات التكافلية مرخصة من قبل وزارة التجارة والصناعة دون اشتراط معيار الخبرة ودون تقديم ضمانات مالية لمواجهة المطالبات المستقبلية. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: من الذي سينوب عن شركة التأمين التي ستواجه الإفلاس, بسبب عجزها عن الوفاء بالتزاماتها المالية? ومن الذي سيعوض حملة الوثائق وملاك المشاريع والمساهمين في نهاية المطاف? وأهم من هذا كله لماذا رخصت الوزارة هذا العدد الكبير من شركات التأمين في فترة قصيرة من الزمن في سوق محدودة الإمكانات, رغم علمها المسبق بمعاناة السوق من تخمة مزمنة في عدد شركات التأمين الوطنية والأجنبية?

وما دور الوزارة لمنع انفراط عقد الشركات التكافلية التي قيل انها الأساس لانتشار الوعي التأميني بين جمهور المتعاملين مع قطاع التأمين? وما خطتها لوقف النزيف المتوقع إذا ما سقطت شركة أو اثنتان من التكافليات, وهو في حقيقة الأمر واقع لا مفر منه? فلا الوزارة توقفت عن منح رخص مزاولة العمل التأميني للمزيد من شركات التأمين, ولا قامت بأداء واجباتها الرقابية على شركات التأمين العاملة في السوق سواء كان عن طريق مفتشيها أو من خلال تحليلها للميزانيات السنوية أو ربع السنوية التي تتسلمها من هذه الشركات للتأكد من أنها تقوم بأعمالها التجارية على أكمل وجه.

إن أغلب شركات التأمين التكافلي اليوم تعاني من مشاكل عديدة, منها عدم تحقيقها لأي أرباح سنوية منذ تأسيسها لتوزيعها على المساهمين, ومنها عدم توزيع أي من فوائضها المالية عند تحقيق ولو النزر اليسير من أرباح تحفظ لها ماء الوجه, إن بقي في الوجه ماء, ومنها ترنح احتياطياتها ومنها مواجهة دعاوى قضائية أكبر من قدراتها على مواجهتها فنيا وماليا. وإذا كانت وزارة التجارة عاجزة عن صد الأزمات وتعديل مسار شركات قطاع التأمين, فمن ذا الذي يقدر على ذلك? ومن الذي سيحمي الاقتصاد الوطني من عبث العابثين?