إن ظهور شركات تأمين تكافلي خلال فترة زمنية قصيرة, لم يكن بسبب مطالبات شعبية لتلبية رغباتهم التجارية, ولا كانت نتاج دراسات جدوى اقتصادية بينت حاجة السوق للمزيد من شركات التأمين, بل هو لوجود رؤوس أموال في غياب قنوات استثمار حقيقية واعدة. فأثناء فورة التداول في سوق الكويت للأوراق المالية انجذبت بعض شركات الاستثمار إلى الفوائض المالية المتجمعة في أيدي بعض الأفراد أو الشركات, فسال لعاب هذا البعض لهذه الأموال فأوحى للمستثمرين بأنه من السهل تأسيس شركات تأمين تكافلية وجني أرباح سريعة وطائلة من ورائها من خلال إدراجها في السوق بعد بضع سنوات من التأسيس, ومن ثم بيع أسهم التأسيس بأسعار مرتفعة ومضاعفة, وحدث ما حدث.

ولكن لا المفترس ولا الفريسة كانت لهما خبرات تأمينية سابقة, فغاب عن بال الدخلاء على قطاع التأمين أن التأمين إستثمار طويل الأمد يتطلب تحقيق فوائض مالية وتكوين محفظة استثمارية لشركة التأمين, وبناء احتياطيات اختيارية وإجبارية لمواجهة مطالبات وتعويضات مستقبلية. ويتطلب أيضا توافر عامل الخبرة لتعزيز هذه المحفظة الاستثمارية, إضافة إلى اعتماد الشفافية والوضوح في التعامل.

كما غاب عن بالهم أن التأمين علم قائم بذاته وليس عقارا أو أسهما تشتريها وتبيعها متى أحسست بظهور ربح مجز في الأفق, وهو ليس دكانا لبيع منتجات عشوائية على عملاء طارئين لتحقيق ربح سهل لمجرد إضافة هامش ربح. وغاب عن بالهم كذلك أن التداول على أسهم شركات التأمين العريقة في سوق الكويت للأوراق المالية لم يكن جاذبا في كثير من الأوقات, فما بالك بشركات تأمين حديثة التأسيس ولا أحد يعرف شيئا عن قياداتها ولا مشاريعها المستقبلية?.

وما زاد الطين بلة أن شركات التأمين التكافلي كلها لم تستطع أن تحقق أرباحا, ولا أن تفي بوعودها لحملة الوثائق بتوزيع الفوائض المالية, لأنهم وببساطة أسسوا شركات بكثافة شديدة وبدون مقدمات في ظروف غاب فيها الحد الأدنى من الوعي التأميني. فظهروا أمام المراقبين وكأنهم ضحكوا على المساهمين والمودعين وعلى حملة الوثائق حتى بعد مرور أكثر من 10 سنوات على تأسيسها, في الوقت الذي نجد فيه شركات تأمين تقليدية قديمة أنشأت وحدات للتأمين التكافلي استطاعت أن تحقق أرباحا مجزية وفوائض مالية من أول سنة لظهورها في السوق.

ما نعرفه عن شركات التأمين التكافلي أنها تتميز بتوزيع الفوائض المالية على حملة الوثائق, إلا أن غالبية التكافليات الكويتية لم تلتزم بتنفيذ هذه الخاصية على أرض الواقع, وإذا كان هناك أي التزام يذكر من قبل شركة تكافلية أو اثنتين فقد كان على استحياء ولذر الرماد في العيون. إذ استمر السواد الأعظم من شركات التأمين التكافلية دون تحقيق أي أرباح لسنوات عديدة, بل تواصلت خسائرها وتآكلت احتياطياتها العامة (الاختيارية) والقانونية (الإجبارية), وتنامت المطالبات في الوقت الذي غابت عنها المساءلة القانونية من قبل الجهات الرسمية المعنية بالمراقبة.

ولهذا السبب نقول إن محاولات هذه الشركات لإضافة شيء إلى السوق المحلي وإلى عالم التأمين, ظل في حدود النظريات ولم نستشعر جديدا لا من حيث المنتج ولا من حيث الأرباح. بل إنها أضافت مشاكل جديدة للسوق قد تزداد تضخما مع مرور الوقت, لتترسخ في أذهاننا مقولة: من زرع الرياح حصد العواصف.

فمكمن الخطورة تتمثل في المطالبات التي لا تقابلها احتياطيات أو مخصصات كافية لمواجهة المشاكل الناجمة عن تراكماتها. ومهما أمعن المراقب الاقتصادي أو المحلل المالي النظر في ميزانيات شركات التأمين المتعثرة وتوصلوا إلى أي نتيجة, إلا أنه سيغيب عن أذهانهم العدد الهائل والكم الكبير من الدعاوى القضائية المرفوعة ضد شركات التأمين بشكل عام وضد شركات التأمين حديثة التأسيس بشكل خاص لإجبارها على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه حملة الوثائق.

مع انتشار حمى التأمين التكافلي في السوق الكويتية قبل عقد ونيف, بدأ البعض يردد ان الأصل في أهمية ظهور الوعي التأميني هو التأمين التكافلي وليس التأمين التقليدي, والتأكيد على أن التأمين التكافلي سيعمل على نشر الثقافة التأمينية, وبرزت الدعوة إلى ضرورة التركيز على المنتجات والخدمات الفردية من التأمين لترسيخ هذا الوعي. لهذا لم نستبعد هذه المعادلة عندما نمى إلى علمنا أن قيادات شركات التأمين القديمة قرروا دعم قطاع التأمين التكافلي من خلال ضخ دماء جديدة في اتحاد شركات التأمين, خاصة من القيادات الضالعة بقضايا التكافل من أجل العمل على زيادة الوعي التأميني عموما والتكافلي خصوصا.

إلا أنه وبعد فترة لم تتجاوز السنتين تراجعت النشاطات الخدماتية لغالبية شركات التأمين التكافلي, تدنت معها النشاطات الإعلامية ذات الصلة بالتأمين التكافلي, وبالتالي أصيب قطاع التأمين بالإحباط نتيجة الخمول الذي أصاب حيوية اتحاد شركات التأمين. وأيا كانت أسباب هذا الإحباط أو التراجع سواء كانت خارجية (الأزمة المالية العالمية) أو داخلية (تكاثر عدد شركات التأمين العاملة في سوق محدودة الإمكانات), كان يفترض أن تبرز مبادرات سريعة لدراسة الوضع الراهن سواء من قبل الاتحاد أو من التكافليات نفسها أو من وزارة التجارة والصناعة أو من غرفة تجارة وصناعة الكويت لاتخاذ قرار حاسم وسريع لمنع تفاقم المشكلات المالية لهذه الشركات.

فلا قرأنا عن لجنة حكومية أو خاصة شكلت لتحليل أسباب بداية ونهاية التكافليات الكويتية. ولا سمعنا عن مؤتمر نظم أو ندوة عقدت أو محاضرة أعدت للخروج بحل هنا أو بتوصية هناك, ولم نطلع على بحث ولم نقرأ دراسة حول مستقبل سوق التأمين في الكويت, كل هذا لم يحدث. بل على العكس لقد حدث صمت يكاد يكون مطبقا في قطاع التأمين, وخاصة من قبل الشركات التكافلية نفسها ومن قبل اتحاد شركات التأمين الذي تسيطر عليه قيادات تكافلية, وكأن الأمر لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد. فكما كان تكالب هذه التكافليات على سوق الكويت المحدودة الإمكانات في تأسيسها وبروزها على السطح فجائيا "مثل الهَبه الكويتية" خلال فترة قصيرة من الزمن لم تزد على العقد, كان غيابها كذلك فجائيا عن الساحة الاقتصادية والإعلامية لتطبق مقولة ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.

إلا أن صمت هذه الشركات الدخيلة على قطاع التأمين التقليدي ¯ إن جاز لنا التعبير – لم يكن مريبا ولا مفاجأة, بل هو متوقع بسبب أسلوب التعامل مع شركات لم يستوعب الناس بعد مضمونها وأهدافها بشكل صحيح, ولم تتمكن الجهات الرسمية من احتضانها بالطريقة السليمة, رغم أنه كان يمكن لهذا المفهوم المستحدث أن يكون نموذجا ناجحا في أسواق المنطقة, فتكسرت بعض سفن التكافليات على شاطىء التأمين المحلي قبل أن تتعمق في إبحارها إلى الإقليمية, فمن أسباب عرقلة مسيرتها ما يلي:

1 ¯ المسارعة في تأسيس "حيا الله أي شركة تكافل" لمنافسة الشركات الأخرى, ظهر فيما بعد وكأن المسألة كانت إما وجاهة إجتماعية أو تحقيق أغراض مرحلية معينة من خلال شركات تكافلية, وفي كلتا الحالتين كانت المصالح الخاصة هي الغالبة.

2 ¯ كان يفترض أن يتولى قيادة شركات التكافل في بداية تأسيسها خبراء التأمين الكويتيون والمخضرمون, من أجل ترسيخ أقدامها في السوق, وبعدها كان بالإمكان تسليم الأمانة إلى الصف الثاني. ولكن ما حدث أن غالبية قيادات التأمين التكافلي كانت قليلة الخبرة في قطاع التأمين عموما فما بالك بالتأمين التكافلي ذي المفهوم الجديد?.

3 ¯ بعض قيادات التأمين التكافلي لم تكن تعرف كيفية التعامل مع مفهوم التكافل, فمن أصول التأمين التكافلي ضرورة التركيز على قطاع الأفراد, من أجل تحقيق أهدافها الأصيلة. لهذا كان البعض بحاجة إلى زيادة خبرته في التأمين التكافلي عموما, قبل تعميم ثقافة التأمين التكافلي بين الجمهور. وبدلا من الاهتمام بتوزيع الفوائض المالية على حملة الوثائق كما تحقق مع شركتين فقط وخلال أول سنتين من التأسيس, كان الاهتمام منصبا على توزيع الأرباح على المساهمين, في تناقض صريح لأهم مبدأ من مبادىء التأمين التكافلي.

4 ¯ وبمجرد أن أضاع المؤسسون هذا المفهوم الأساسي لحقيقة شركات التأمين التكافلي, فقد أضاعوا بوصلة أهدافهم, ليصبح قطاع التأمين التكافلي وكأنها شركات دخيلة على قطاع التأمين الكويتي, وكأنها أيضا تكافلية في "البودي" فقط ولكنها تقليدية في "ماكينتها", إن جاز التعبير.

5 ¯ تتميز السوق الكويتية بمحدودية الإمكانات سواء من حيث عدد السكان, أو من حيث الامتداد الجغرافي أو من حيث انخفاض مستوى الثقافة التأمينية عموما. وإذا أخذنا مسألة فائض شركات التأمين المتنافسة في هذه السوق, نستطيع أن نستشعر حالة التخمة التي كانت تعاني منها سوقنا قبل دخول التكافليات إلى الساحة.

6 ¯ غياب المبادرات الفردية والحوافز الجماعية لتطوير قطاع التأمين خيم على حالة الإبداع فافتقرت شركات التكافل إلى خدمات مبتكرة وأنشطة مستحدثة للظهور ب¯ "نيو لوك" لهذا القادم الجديد في سوق كانت تنتظر الجديد.

7 ¯ لارتباط غالبية شركات التأمين الكويتية بعلاقات خارجية متشعبة إن بشكل مباشر أو غير مباشر, فقد كان للأزمة الاقتصادية العالمية دور بارز في الإطاحة بطموحات التكافليات التي تأسست في وقت كانت شركات من مختلف القطاعات الاقتصادية الكويتية تترنح من تأثير "خبطة" هذه الأزمة على الرأس.

8 ¯ الأوضاع السياسية المحلية غير المستقرة وعملية الشد والجذب التي جرت فصولها بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لفترة غير قصيرة من الزمن عطلت المشروعات التنموية وألقت بظلالها القاتم على مختلف القطاعات الاقتصادية, وتسببت بتراجع الأداء العام على كل المستويات.

وكلامنا هذا لا يعني إغلاق ملف التكافليات وكأن شيئا لم يكن, بل إن كل سبب من أسباب التراجع في أداء شركات التكافل يمكن أن يكون بمثابة حافز قائم بذاته لتطوير قطاع التأمين, وبإمكانه أن يدفع نحو إطلاق المبادرات الخلاقة لإعادة الحياة إلى هذا القطاع.

وللحديث حول التكافليات .. بقية.