لقد جرت العادة في أي سوق منظمة في العالم أن يبدأ كل من لديه نية تأسيس شركة تعمل في قطاع التأمين, بأولى خطوات التأسيس وهي إعداد دراسة جدوى اقتصادية عبر بحث ميداني مفصل للتأكد من حاجة السوق إلى شركات جديدة, والتحقق من قدرة هذه الشركات الوليدة على استغلال ظروف السوق والفرص المتاحة لتلبية حاجات السوق, وأهم من هذا كله البحث في الإمكانات المتوفرة لتحقيق أرباح مجزية في هذه السوق.
ولهذا, فإن المنطق يقول أنه عندما يتقدم مواطن إلى وزارة التجارة والصناعة من أجل الحصول على ترخيص شركة لمزاولة أعمال التأمين, فإنه يتوقع أن يسأل عما إذا كان قد أعد دراسة جدوى اقتصادية أم لا. إلا أن ما يطبق في وزارة التجارة والصناعة كمن يركب الحمار ووجهه للخلف. إذ إن الوزارة وبعد إصدارها ترخيصا لشركة تأمين تقوم بالطلب من أصحاب هذه الشركة الجديدة بإعداد دراسة جدوى قبل مزاولة العمل.
مثل هذا السلوك التجاري المثير للدهشة يذكرني بمن يرمي طوق النجاة لإنقاذ غريق وصل إلى الشاطئ, فما أهمية دراسة الجدوى هذه لمجموعة من رجال الأعمال بعد أن اتخذوا قرارا بإنشاء شركة جديدة وبعد أن منحوا ترخيصا رسميا لهذه الشركة?. والغريب في الأمر أنه وبسبب محدودية السوق المحلية وطفح هذه السوق بكثير من شركات التأمين الزائدة عن الحاجة تكبدت شركات تأمين عديدة خسائر قد تأتي على كامل رؤوس أموالها.
بل إن الأغرب في وضع قطاع التأمين المحلي, أن وزارة التجارة والصناعة قامت قبل فترة بمخاطبة شركات التأمين الخاسرة باتخاذ أي إجراء احترازي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه, فكيف تسمح هذه الوزارة بعد خطوتها تلك بإنشاء شركات تأمين جديدة?, بل وكيف تطلب من المؤسسين إعداد دراسة جدوى اقتصادية وهي تعرف مسبقا أن أوضاع السوق المحلية سيئة?. إلا إذا كانت الوزارة لا تعلم شيئا عما يجري في قطاع التأمين المحلي, أو أنها تعلم أشياء كثيرة لا يعلمها العاملون في قطاع التأمين, أو أن التقارير التي تصل إلى الوزارة حول أوضاع التأمين في الكويت "أي كلام".
ولنفترض أننا قبلنا بالهرم المقلوب في وزارة التجارة, إلا أنه يبدو أن "خبراء" الوزارة لا يتصفحون دراسات الجدوى التي تقدمها شركات التأمين التي تأسست خلال السنوات القليلة الماضية, فما بالك بالقراءة المتأنية والفاحصة لهذه الدراسات?. ولو تصفحت أولى صفحات هذه الدراسات لاكتشفت أن أغلبها – إن لم يكن كلها – منسوخة من بعضها البعض على غرار (Cut & Paste). فما الجديد الذي قدمته أي دراسة من دراسات جدوى إنشاء شركات تأمين جديدة لكي نحقق النجاح المنشود?, وما السر في عجز غالبية شركات التأمين الجديدة عن تحقيق النجاح المطلوب أصلا, إذا كانت آخر شركة تأمين جديدة أنشئت مؤخرا تضمنت دراسة الجدوى الاقتصادية التي قدمتها تأكيدات على إمكانات تحقيق ارباح مجزية?.
إن السوق الكويتية تفيض بشركات استشارية غير متخصصة ولا خبيرة في علوم دراسات الجدوى الاقتصادية إن جاز التعبير – إلا أنها "متفرغة" في إعداد دراسات منسوخة عن نسخة أخرى هي نفسها منسوخة عن نسخة ثالثة وعن رابعة وخامسة. الأدهى والأمر أن نفس هذه النسخة تعرض على مجاميع أخرى ترغب في تأسيس شركات تجارية جديدة في قطاعات اقتصادية أخرى غير التأمين.
ولم نجد هيئة أو مؤسسة حكومية واحدة أو حتى إدارة حكومية تستدعي مؤسسي الشركات الجديدة لتخبرهم بكل صراحة أن هذه الدراسة منسوخة, أو أنها مليئة بالأخطاء الاقتصادية التي لا تتوافق مع الظروف الحالية للسوق المحلية. فهل رأينا دراسة جدوى اقتصادية واحدة تصارح المؤسسين لشركات أي قطاع اقتصادي بأن السوق الكويتية اليوم لا تسمح بإنشاء حتى بقالة?.
نحن نعرف أنه عندما تتسلم أي هيئة أو مؤسسة حكومية دراسات الجدوى الاقتصادية, فإنها تقوم بفحصها وتحليلها ومن ثم اتخاذ القرار المناسب إما بالموافقة أو الرفض. ولهذا فإن هذه الهيئة الحكومية ومن باب أضعف الإيمان, لابد أن لديها جهاز أو لجنة تتكون من أعضاء هم في الاصل خبراء اكتواريون متخصصون في علوم اقتصادية شتى قادرون على التحليل الاقتصادي, ليضعوا ملاحظاتهم وقراراتهم أو توصياتهم على هذه الدراسات.
وإذا كانت الحكومة عند كل تشكيل تضم بين أعضائها عضوا برلمانيا ليكون محللا, فإننا نتوقع أن يتكرر نفس السيناريو داخل وزارة التجارة والصناعة أيضا. فقد جرت العادة أن تسلم نماذج دراسات الجدوى الاقتصادية إلى أحد مستشاري الوزارة الاقتصاديين, وهو أصلا غير متفرغ للعمل الوزاري بحكم قيامه بالتدريس في أحد المعاهد التجارية. وقد يكون هذا "المحلل" حاصلا على درجة دكتوراه لا علاقة لها بالتأمين لا من قريب ولا من بعيد, ورغم ذلك يقوم هذا الخبير "غير الاكتواري" بالمجازفة بمصير القطاع وتحليل أكداس دراسات الجدوى التي ترمى أمامه لتقديم توصياته عليها. هذا ما نعرفه عما كان يجري في أروقة هذه الوزارة قبل بضع شهور, ولا أعتقد بإمكانية تغير هذا الوضع في الوزارة اليوم وبهذه السرعة.
ورغم ذلك فإنه ليس ضروريا الأخذ أو العمل بتوصيات خبراء الوزارة, فالموافقة على تأسيس شركة التأمين الجديدة وترخيصها لمزاولة أعمالها آتية لا ريب فيها, وكأن تحليلات وتوصيات هذا المستشار تحصيل حاصل لا أكثر, مع احترامنا الشديد لهذا "المحلل". لماذا?, لأن في الكويت كل مجموعة من الشركات المملوكة لجماعة مؤثرة اقتصاديا أو أن لها وزناً اجتماعياً أو ثقلاً سياسياً, قامت بتأسيس شركة تأمين خاصة بها تقوم بخدمة المجموعة, تطبيقا لمبدأ "دهنا في مكبتنا", فتنصاع الوزارة لرغبة كل مجموعة مؤثرة وتتم تلبية رغبتها بالموافقة على التأسيس قبل تقديم دراسة الجدوى.
ألا يذكرنا هذا الإجراء الغريب الذي تتبعه وزارة التجارة والصناعة بمن يضع العربة أمام الحصان?. إنه وضع محزن ولكنه وفي نفس الوقت يوضح لنا جميعا مضمون السبب الرئيسي وراء خروج عدد غير قليل من الشركات الحديثة الولادة من السوق الكويتية بعد فترة وجيزة من التأسيس, وتكبد عدد آخر لخسائر كبيرة إن لم تكن قد شارفت على الإفلاس.
وإذا كنا نركز في حديثنا على قطاع التأمين, فإن التلاعب في مضامين دراسات الجدوى واستنساخها لا يقتصر على هذا القطاع فقط, وإنما يسري على الكثير من القطاعات الاقتصادية وخاصة قطاع الصناعة الذي شهد تراجعا ملحوظا مقارنة بالشركات الصناعية في المنطقة وخاصة خلال العقدين الماضيين رغم تدخل الهيئة العامة للصناعة لدعم هذا القطاع.
فهل تستجمع وزارة التجارة والصناعة شتات شجاعتها وتتسامى على جراحها المتزايدة عبر العقود, لكي تتخلص من أساليبها العقيمة وتشكل لجاناً أكاديمية متخصصة لتقييم دراسات الجدوى الاقتصادية بشكل علمي مدروس?. أم أنها ستواصل سلبيتها القاتلة فتدعي مسؤوليتها عن قطاع التأمين الحيوي دون أن تدري عما يجري من تطورات في أروقة شركاتها?.