بلا شك أن أحداث 11 سبتمر 2001 كانت أحداثاً إستثنائية بمعنى الكلمة وتم إشباعها نقاشاً خلال السنوات الماضية من نواح عدة, إلا أنني في هذا المقال سأتناول الموضوع بشكل مختلف تماماً , وسننظر إلى تلك الأحداث من وجهة نظر تأمينية بحتة ,وسأبحر بكم في الأرقام الفلكية التي تم تداولها والمتعلقة بالتعويضات عن هذه الأحداث ، إذ قُدر أن المطالبات التي ستنتج عنها ستكون الأعلى تاريخياً لحادث يتسبب به البشر , حيث قدرت وكالة موديز للتصنيف الإئتماني بعد الحادثة أن الكلفة الإجمالية على صناعة التأمين نتيجة للخسائر المتعلقة بهذه الأحداث قد تتراوح بين 10 مليارات إلى 15 مليار دولار,في حين قدرت شركة إعادة التأمين العالمية ميونخ ري حصتها من الخسائر بـ 1,906,600,000 دولار و هبط سهم ميونخ ري أثر ذلك 4.7%, كما هبط مؤشر داوجونز ستوكس لقطاع التأمين 4.4 % في أدنى إنخفاض له منذ ثلاث سنوات في ذلك الحين.
هذا الإنخفاض كان رد فعل طبيعي بعد هذه الأرقام خاصة إن علمنا أن اسوأ كارثة ناجمة عن البشر في التاريخ كانت معروفة آنذاك هي "انفجار منصة بايبر ألفا النفطية" قبالة السواحل البريطانية في 6 يوليو من عام 1988 و بلغت قيمة التعويضات لذلك الحادث ثلاث مليارات دولار فقط.
في حين أن اسوأ كارثة ليست ناجمة عن البشر حتى ذلك التاريخ كان إعصار اندرو الذي إجتاح فلوريدا ولويزيانا عام 1992 وبلغت الخسائر التي تكبدتها صناعة التأمين أثر هذا الإعصار مبلغ 19,65 مليار دولار.
ولكي نعرف لماذا جاءت التوقعات بخصوص المطالبات عالية جداً كما ورد, فعلينا أن نعرف أن الأرض المقام عليها مبنى التجارة العالمي مملوك لهيئة موانئ مدينة نيويورك , و قام رجل أعمال يهودي يدعى (لاري سيلفرشتاين) بإستئجار المبنى بتاريخ 24.07.2001 (قبل ست أسابيع من الحادثة) وذلك بعقد إيجار بلغت قيمته 3.2 مليار دولار ولمدة 99 عاماً , واستمر سيلفر شتاين بدفع مبلغ 10مليون دولار كإيجار شهري ملتزماً بشروط العقد المبرم حتى بعد انهيار البرجين مما ضمن له حق تطوير الموقع وعمليات الإنشاء التي تتم على أنقاض البرجين القديمين, حيث تم الإتفاق بعد الحادثة في تسوية على إقامة خمس مبان في مكان البرجين المدمرين لسيلفر شتاين حق إمتلاك ثلاث منها.
عقد الإيجار هذا تضمن أيضاً تأميناً بقيمة 3.5 مليار دولار ويا للصدفة, فإن هذا التأمين يتضمن تغطية لأعمال الإرهاب والتخريب المتعمد التي لم تكن سوقاً رائجاً في ذلك الوقت.
المطالبات التي نشأت عن إنهيار البرجين شملت ناحيتين أساسيتين :
أولاً – المطالبات التي قدمها المستثمر عن إنهيار البرجين :
حيث قام سيلفرشتاين بالتقدم بمطالبة للشركات المؤمنة على برجي التجارة العالمي بلغت قيمتها 7 مليار دولار ، حيث كانت وجهة نظر سيلفرشتاين أن "طائرتين مختلفتين ضربتا البرجين في وقتين مختلفين وبناء عليه فإننا بصدد حادثتين منفصلتين وإنه يتعين على شركات التأمين دفع المستحق عليهما بعدالة" رفضت شركات التأمين المؤمنة على المبنى المطالبة معتبرة أن العمليتين على البرجين تشكل اعتداءاً واحداً ضمن مخطط واحد, إلا أن هيئة محلفي نيويورك حسمت الجدل واعتبرت أن كل طائرة هي هجمة منفصلة ويترتب عليها مبلغ تعويض منفصل لتبدأ بعد هذا القرار جولة مفاوضات طويلة وشاقة انتهت في 24 مايو 2007 حيث اعلنت مجموعة من سبع شركات تأمين كبرى هي ((إليانز جلوبال ريسك، ترافلرز كومبانيز، زيورخ أمريكان، سويس ري، وإيمبلويرز إنشورانس، إندستريال ريسك إنشورارز، ورويال إنديمنيتي)) توصلها مع سيلفرشتاين إلى تسوية تنهي نزاعاً طويلاً استمر خمس أعوام بشأن التعويضات المستحقة.
وحصل سيلفر شتاين بموجب التسوية مع هذه الشركات على مبلغ 4.5 مليار دولار (قُسمت بنسبة غير معروفة بينه وبين هيئة موانئ نيويورك التي تملك موقع المركز ) ووقعت كل الأطراف عقد سرية يمنعها من ذكر المبلغ الذي دفعته كل شركة تأمين منفصلة, لتصبح بذلك هذه التسوية أكبر تسوية في تاريخ شركات التأمين على الإطلاق.كما ضمن الإتفاق الحصول على تمويل خاص للمشروع المكون من خمس مبان الأشهر فيها هو برج الحرية الذي سيتكلف 3 مليارات دولار.
شركة "سيلفرشتاين بروبرتيز" والمملوكة لـ (سيلفر شتاين) لم تكتف بمبلغ 4.5 مليار دولار الذي تلقته من شركات التأمين في عام 2007 فلقد قام سيلفر شتاين بالإعلان في مايو 2013 بأنه سيلاحق شركتي الطيران اللتين صدمت طائرتاهما البرجين وهما يونايتد ايرلاينز واميركان ايرلاينز ليدفعا له المزيد بالإضافة إلى 4.5 مليار تم إستلامها من تحالف الشركات المؤمنة سابقاً , وبعد هذا الإعلان لعل الجميع يحضره قصة المرابي اليهودي شايلوت الذي تحدث عنه شكسبير في رائعته تاجر البندقية.
ثانياً : المطالبات التي قدمت بخصوص الوفيات والإصابات
بلغت عدد الدعاوى التي تم قبولها من عائلات القتلى والمصابين 10,043 منهم 2753 قتيل والباقي مصابين واغلبهم من رجال الإطفاء والشرطة الذين اشتكوا من امراض تنفسية ناتجة عن تنفس غازات سامة ودخان أثناء القيام بعمليات الإطفاء والإخلاء.
اثبتت دراسات لاحقة إزدياد الامراض التنفسية لدى سكان جنوب مانهاتن الذين تنشقوا الغبار الناجم عن انهيار البرجين التوأمين وقُدمت 70,000 شكوى بهذا الخصوص, ولعل هذا بسبب مادة الأسبستوس الداخلة في بناء مبنى التجارة العالمي, حيث كان يستعمل في السابق في البناء قبل أن يكتشف أثاره الكارثية المسرطنة, وللعلم فإن تكلفة هدم مبنى التجارة العالمي الذي بني عام 1966 بالطريقة المعروفة كانت ستكون عالية جداً جداً لدخول مادة الإسبستوس في البناء, والأسبستوس مستثنى من التغطية التأمينية في بوالص تأمين إصابات العمل وبالتالي يمتنع المقاولون عن تأدية أعمال الهدم لمثل هكذا مبان لتجنيب انفسهم مطالبات قد يرفعها عليها عمالهم مستقبلاً.
التعويضات التي تم الإتفاق عليها بين شركة التأمين "دبليو تي سي كابتيف" التي انشئت لهذا الغرض في 2004 وبين 10,043 شخص تضمنت تسوية بمبلغ إجمالي وقدره 625 مليون دولار , 200 مليون منها للمحامين الذين وافقوا على تخفيض اجورهم بنسبة 25% , نعم عزيزي انت تقرأ الأرقام بطريقة صحيحة 4.5 مليار لسيلفر شتاين و 425 مليون لعشرة ألاف بين قتيل ومصاب و 200 مليون للمحامين.
هذا مع العلم أن المبالغ الممنوحة لرجال الانقاذ او الى عائلاتهم متفاوتة جداً ويمكن ان تبدأ بمئات الدولارات وتصل الى اكثر من مليون، حسب خطورة العجز او الامراض المزمنة التي نجمت عن العمل في منطقة البرجين.
فعلى سبيل المثال، يمكن ان يحصل شخص غير مدخن بدأ يعاني من الربو الذي تفاقم في الاشهر السبعة التي تلت الاعتداءات، على ما بين 800 الف دولار و1,05 مليون دولار، وتستطيع عائلة شخص توفي ان تحصل على 1,5 مليون دولار في حالات محددة.