عاد التأمين الالزامي ليفرض ذاته على النشاط التأميني كواحد من المفاصل الضعيفة التي تؤرق شركات التأمين باعتباره يسجل في كثير من الاحيان مصدر خسارة وليس مصدر ربح. فالمعادلة التي تحكم سعر التأمين الالزامي لا ترتقي الى مستوى أن تكون قادرة على تغطية كلفة هذا التأمين رغم أنه قد تم تاريخيا تعديل هذه المعادلة لمرات عدة. والواقع أن فرض التأمين الالزامي هو من العناصر المهمة في تجذير ثقافة التأمين غير أن تقييد هذا النشاط بمعادلة تحكم سعره يعتبر الاشكالية الأساسية. فالمعادلة التأمينية هنا تتجاذبها أطراف ثلاثة تتضارب مصالحها فيما بينها، فالحكومة تريد أن تقدم الخدمة التأمينية الالزامية بسعر يكون في متناول كل المستفيدين من هذه الخدمة باعتبار أن مستهلكي أو طالبي هذه الخدمة ينتمون في الغالب الى الشريحة المحدودة الدخل، وكذلك فان طالب الخدمة التأمينية يريد أن يضمن فرض السعر التأميني ففي ذلك ضمانة أن يبقى داخل مظلة الحماية من الارتفاع في السعر، وبالمقابل فان شركات التأمين لا تستطيع أن تستمر بمعادلة سعرية تعتبرها غير كافية لأن تغطي تكاليف التأمين الالزامي.
وهنا نقول أن الأمر لا يقف عند حدود زيادة سعر التأمين الالزامي بوضع معادلة جديدة منصفة أو قادرة على التعامل الصحيح مع كافة أضلاع المثلث المتضارب المصالح، بل ان الاجتهاد في وضع معادلة صحيحة للتأمين الالزامي لا تقوى على الثبات على المدى المتوسط والبعيد بحكم سرعة تغير العناصر المكونة لكلفة التأمين الأمر الذي يعيد معادلة التأمين الالزامي الى وضعها المأزوم أياً كانت الاجتهادات حولها، وهذا يعني أننا في كل مرة نجتهد ونضع معادلة جديدة للتأمين الالزامي نجد أنفسنا بعد حين أمام ضرورة أن يصار الى اعادة الاجتهاد في وضع معادلة جديدة وهكذا دواليك.
فالأمر اذاً لا يحل من خلال التفكير في سعر تأميني الزامي جديد ضمن معادلة معينة، بل ان أفضل معادلة يمكن أن تتعامل مع هكذا حالة هي تلك المعادلة التي تفرضها قوى السوق والمنافسة والعرض والطلب، والواقع أن هذه ليست فقط مخرجا للمعادلة الصحيحة بل هي حالة من الانسجام مع السياسة الاقتصادية ومع ثوابت التوجه نحو اقتصاد السوق.
ان تعويم أسعار التأمين الالزامي قد يرفع منسوب هذه الأسعار على المدى القصير لكنه قطعا على المدى المتوسط والبعيد سوف تقترب الأسعار من نوعية الخدمة المقدمة وسوف تنهض السوية التأمينية وينهض معها الوعي التأميني والثقافة التأمينية، وهذه ليست فقط خروجاً من مأزق تأميني بل هي حالة محفزة لانفتاح تأميني على نشاطات أفقية وكذلك على تطور عامودي في التأمين يعمق من قدرة الشركات التأمينية في ابتكار العروض والخدمة والمزايا الأفضل لجذب طالبي هذه الخدمة التأمينية.
ان الوقت قد حان لأن نخرج من دوامة معادلة التأمين الالزامي في سعره المحدد وأن نعطي ولو فرصة سنوات قليلة لمعادلة السوق في أن تحدد سعر هذا التأمين ولنا كل الحق في أن نعيد تقييم هذه التجربة بعد فترة معينة غير أن مؤشرات كل الدول التي سبقتنا تؤكد أن السعر الأفضل لمثل هذا التأمين هو ذاك الذي تفرضه معادلة السوق وقوى العرض والطلب.